لئن أدركت رمضان ليَرينَّ اللهُ ما أصنع!!
الكاتب : عمر بن عبدالله المقبل
أخذ صاحبي مكانه في مصلّى العيد، وبدأ يُناجي نفسه ويُحادثها، ويسترجع معها شريط الذكريات لشهر كاملٍ... شهرٍ مضى وكأنه يوم واحد... جلس وهو يعتصر ألماً على تلك الليالي التي تصرّمت، والأيام التي تقضت، ومما زاد ألمه أنه قارن نفسه ببعض من حوله، فإذا المسافة بينه وبينهم كبيرة.. لقد دخلوا الميدان في يوم واحد بل في ساعة واحدة، ولكنه تباطأ وسوّف؛ بل ونام كثيراً حتى سبقه السابقون، لقد حاول أن ينظر إليهم بمقرب الصور "الدربيل" فلم يستطع، فقد سبقوه سبقاً بعيداً، وظفروا بالجوائز الكبرى..
استنجد صاحبي بذاكرته ليقلب من خلالها صفحات عمله في هذا الشهر الذي انصرم، لعله يجد فيها ما يرفع من معنويات نفسه المنكسرة، فبدأ يقلب صفحات البر التي تيسر له أن يقوم بشيء منها.. ففتح صفحة قراءة القرآن، فإذا هو لم يكد يصل إلى ختمة واحدة إلا بشقِّ الأنفس ! وهو يسمع ـ ليس في أخبار السلف السابقين ـ بل في أخبار أناس حوله من الصالحين بل ومن الشباب من ختم خمس مرات، ومن ختم ست بل وعشر مرات !!
حاول أن يخفف حسرته هذه ليفتح صفحة البذل والجود والعطاء لمن هم حوله أو لمن هم خارج بلاده من منكوبي المسلمين، خاصة وأنه يعلم أنّ الله تعالى قد أعطاه وأنعم الله عليه بالمال، وإذا هو لم يكن له النصيب الذي يليق بمثله من الصدقة والصلة والإحسان.. تنهد .. سكت قليلاً... نظر فإذا صدقته وبذله لا يتناسب مع ما آتاه الله تعالى من المال.. فالسائل والمحروم ليس لهم من ماله في هذا الشهر نصيب إلا النّـزر اليسير، بل قد يكون بعض كرام النفوس الذين عافاهم الله تعالى من شحِّ النفس ـ مع قلة ذات أيديهم ـ أكثر منه بذلاً...
أشاح بوجهه عن هذه الصفحة، وحاول أن يخفي ألمه وحسرته، بتقليب صفحة أخرى لعله يجد نفسه سابقاً ولو في ميدان واحد، فإذا بصفحة صوم الجوارح تواجهه، وهنا أسقط في يده، لقد تذكر ليالٍ كثيرة أطلق لبصره ولسمعه وللسانه فيها العنان...
تذكر تلك المجالس التي يجتمع فيها هو وأصحابه على مشاهدة البرامج التي يعدها قطاع الطريق في هذا الشهر المبارك ـ طريق الجنة ـ من الدعاة إلى أبواب جهنم ببرامجهم الفضائحية... من أفلام ومسلسلات يستحي العاقل ـ فضلاً عن المؤمن المَشفق على قلبه وعمله ـ أن يشاهدها في غير رمضان فكيف في شهر الرحمة والرضوان ؟!
وتذكر صحابنا ـ والألم والحسرة يكادان يفلقان كبده ـ كم ضاع وقته في تتبع المسابقات الدنيوية في الصحف والقنوات التي أشغلته عن المسابقات الأخروية... تذكرها وهو يبكي على ما أصيب به من خذلان: كيف أَشغل نفسه بمسابقات دنيوية نسبة فوزه بها في أحيان كثيرة تصل إلى الواحد من 500.000 أو أكثر، يبذل فيها جهداً ومالاً ووقتاً، وفي النهاية لا يفوز إلا خمسة أو عشرة أو حتى مئة من ملايين المتسابقين!
تذكرها وهو يعاتب نفسه كيف أعرضت عن مسابقات الفوز بها مضمون؟! وأي فوز هو؟
إنّ جائزة مسابقتنا هي الجنان، ورضا الرحمن، وأنهار، وأشجار، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، ونسبة الفوز فيها لمن أخلص وتابع مضمونه 100% !! ولكنه حبَّ الدنيا الذي زاد عن حده، واللهث وراءها !!
وبينما هو جالس في المصلى، التفت صاحبي في مصلى العيد فرأى بعض أصحابه في الاستراحة والجلسة الليلية الرمضانية... رآهم في أحسن حُلّة، وأجمل لباس، والابتسامات تتوزع هنا وهناك...
ولما حوّل بصره إلى ناحية أخرى نظر فإذا جملة من العباد والصالحين في مقدمة الصفوف ممن عَرِفهم بأنواع الطاعات وأصناف القربان، رآهم والبُشر والسرور يطفح على وجوههم ، وكأن الواحد منهم ـ لولا خشية إفشاء العمل ـ لقال بلسان حاله : هاؤم اقرؤوا كتابيه ..
لقد لبسوا الجديد كما لبسه أصحابه، ولكن شتان بين ابتسامة وابتسامة !! وشتان بين جديد وجديد... ، هنا، أخذت الأحاسيس تتردد في نفسه، وبدأت الأسئلة تتدفق على ذهنه... هؤلاء أصحابي الذين أمضيت ما أمضيت معهم من الوقت فيما لا فائدة فيه؛ بل فيما حرَّم الله أحيانًا.. على ماذا يبتسمون يا ترى ؟! أهم يبتسمون ويضحكون على التخلص من رمضان أم على ماذا ؟ أم فرحا بإطلاق العنان لشهوات النفس ؟ أم على لبس الجديد أم على ماذا يا ترى ؟ وتذكر لحظتها كلمة سمعها في خطبة العيد العام الماضي: ليس العيد لمن لبس الجديد ، ولكنه لمن رَضِي عنه ربُّ العبيد ، وأعتقه من العذاب الشديد ...
طافت به هذه التساؤلات وهو يقلب طرفه في أولئك الصالحين والعباد وهو يتذكر ما قرأه في بعض الكتب، وهو أن الصالحين يفرحون بالعيد لتمام نعمة الله عليهم ببلوغ الشهر وتمامِه، والرجاء يحدوهم من الرب الكريم أن يقبله منهم !
وتذكر تلك الكلمة التي سمعها من إمام المسجد، والتي كان الإمام يحيى بن أبي كثير يقولها إذا جاء شهر رمضان: اللهم سلّمني لرمضان وسلّم لي رمضان، وتسلّمه مني مُتقبلا.
خرج صاحبنا من مصلى العيد، وهو يعد نفسه الوعود الصادقة، ويمنيها بالعزمات الأكيدة، ويقول في نفسه : لئن أحياني الله تعالى إلى رمضان القادم ليَرينَّ اللهُ ما أصنع !! ولأعيشنَّ هذه الفرحة التي عاشها الصالحون العاملون...
هذه ـ أخي الحبيب ـ مشاعر نادم على التفريط، جالت في ذهنه وبسرعة وهو في مصلى العيد ينتظر الصلاة مع المسلمين في عيد الفطر الماضي...
وهي بالتأكيد مشاعر كل مؤمن في قلبه حسٌ وإدراك لفضائل هذا الشهر الكريم، ومناقبه وعظيم منزلته عند الله..
ودارت الأيام، وأقبل شهر رمضان، وها هو اليوم ينقل لكم عزمه وتصميمه ـ بإذن الله ـ على استغلال أيام وليالي هذا الشهر المبارك بكل ما يستطيع!.
ومما زاد من عزمه وتصميمه أنه نظر من حوله، فإذا الموت قد أخذ واحداً من أفراد عائلته، وشخصاً من حيهم الذي يسكن فيه، كما أن زميله في العمل أو الدراسة قد وافته هو الآخر منيتُه.. كل ذلك جعله يحمد الله أن أمهله حتى وصل إلى هذا اليوم راجياً من ربه أن يبلغه الشهر الكريم، فقد تقطع قلبه شوقاً إليه ...
وما له لا يشتاق، وهو يسمع فضائله العظيمة، ومناقبه الكبيرة ؟ أليس هو شهر القرآن، والرحمة والدعاء، والمغفرة، والرضوان ؟!
ما له لا يشتاق، بل لو تقطّع قلبه شوقاً لما كان ـ وربي ـ ملوماً ، وهو يسمع قول الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول : «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه » [ رواه البخاريّ ومسلم] ؟ «ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه،ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [ صححّه الألبانيّ في صحيح النسائيّ] ؟
أَيُلام هذا ؟! وهو يعلم أنّ الذي يعده بهذه الكنوز ليس قناة فضائية ولا صحيفة سيارة، بل الذي يعده هو محمد -صلى الله عليه وسلم- ؟!.
أًيُلام هذا على شوقه، وهو يسمع حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب النار ، وصفدت الشياطين» [ صححّه الألبانيّ في صحيح النسائيّ] ...
لا تلوموه ـ يا أحبة ـ فهو يعلم أن أبواب الجنة ما فُتحت، وأن أبواب النار لم تغلق من أجل الملائكة! ولا من أجل الجبال! ولا من أجل الشجر! ولا من أجل الدواب! بل فتحت أبواب الجنة من أجله هو وإخوانه المؤمنين إِنسهم وجنّهم ...
نعم! من أجله هو من بين مخلوقات السماوات والأرض! ولا أُغلقت أبواب النار إلا لأجله هو... أفَيُلامُ هذا على فرحه وسروره وغبطته وحبوره؟!
من ذا الذي يلومه ؟! وهو يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة» [ صححّه السفارينيّ الحنبليّ في لوائح الأنوار السنيّة ]؛ وقد علم أن القرآن ثلاثُمائة ألف حرف تقريباً، أي أنه في الختمة الواحدة له ثلاث ملايين حسنة ! وفضل الله أوسع وأعظم ولسنا نعده ولا نحصيه، فإذا ضوعِفت الحسنة إلى سبعمائة ضعف، فمن الذي يستطيع عدّ ذلك ؟! .
فنسأل الله تعالى، وهو واسع الفضل والعطاء، ذو المّنَ والجود والكرم والسخاء، نسأله أن يمُنّ علينا وعلى أخينا الكريم باستغلال أيام العمر فيما يُرضيه عنا، وأن لا يحرمنا فضله بذنوبنا، ولا نواله بسوء أفعالنا، إنّ ربي لطيف لما يشاء، إنّه هو العليم الحكيم.
لآ تنسسسو + التتقآييممْ + الردود
سسلآإممْ ..